سورة النمل - تفسير تفسير البغوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النمل)


        


قوله عز وجل: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} أي: طلبها وبحث عنها، والتفقد: طلب ما فُقِد، ومعنى الآية: طلب ما فقد من الطير، {فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} أي: ما للهدهد لا أراه؟. تقول العرب: ما لي أراك كئيبًا؟ أي: مالك؟ والهدهد: طائر معروف. وكان سبب تفقده الهدهد وسؤاله عنه، قيل: إخلاله بالنوبة، وذلك أن سليمان كان إذا نزل منزلا يظله وجنده الطيرُ من الشمس، فأصابته الشمس من موضع الهدهد، فنظر فرآه خاليًا.
وروي عن ابن عباس: أن الهدهد كان دليل سليمان على الماء وكان يعرف موضع الماء ويرى الماء تحت الأرض، كما يرى في الزجاجة، ويعرف قربه وبعده فينقر الأرض، ثم تجيء الشياطين فيسلخونه ويستخرجون الماء. قال سعيد بن جبير: لما ذكر ابن عباس هذا قال له نافع بن الأزرق: يا وصاف انظر ما تقول، إن الصبي منا يضع الفخ ويحثو عليه التراب، فيجيء الهدهد ولا يبصر الفخ حتى يقع في عنقه، فقال له ابن عباس: ويحك إن القدر إذا جاء حال دون البصر. وفي رواية: إذا نزل القضاء والقدر ذهب اللب وعمي البصر. فنزل سليمان منزلا فاحتاج إلى الماء فطلبوا فلم يجدوا، فتفقد الهدهد ليدل على الماء، فقال: ما لي لا أرى الهدهد، على تقرير أنه مع جنوده، وهو لا يراه، ثم أدركه الشك في غيبته، فقال: {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} يعني أكان من الغائبين؟ والميم صلة، وقيل: «أم» بمعنى بل، ثم أوعده على غيبته، فقال: {لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا}.


{لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} واختلفوا في العذاب الذي أوعده به، فأظهر الأقاويل أن ينتف ريشه وذنبه ويلقيه في الشمس ممعطًا، لا يمتنع من النمل ولا من هوام الأرض. وقال مقاتل وابن حيان: لأطلينّه بالقطران ولأشمسنّه. وقيل: لأودعنّه القفص. وقيل: لأفرقن بينه وبين إلفه. وقيل: لأحبسنّه مع ضده. {أَوْ لأذْبَحَنَّهُ} لأقطعن حلقه، {أَوْ لَيَأْتِيَنِّني بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} بحجة بينة في غيبته، وعذر ظاهر، قرأ ابن كثير: {ليأتيني} بنونين، الأولى مشددة، وقرأ الآخرون بنون واحدة مشددة.
وكان سبب غيبة الهدهد على ما ذكره العلماء أن سليمان لما فرغ من بناء بيت المقدس عزم على الخروج إلى أرض الحرم، فتجهز للمسير، واستصحب من الجن والإنس والشياطين والطيور والوحوش ما بلغ معسكره مائة فرسخ، فحملهم الريح، فلما وافى الحرم أقام به ما شاء الله أن يقيم، وكان ينحر كل يوم بمقامه بمكة خمسة آلاف ناقة ويذبح خمسة آلاف ثور وعشرين ألف شاة وقال لمن حضره من أشراف قومه: إن هذا مكان يخرج منه نبي عربي صفته كذا وكذا، يعطي النصر على جميع من ناوأه، وتبلغ هيبته مسيرة شهر، القريب والبعيد عنده في الحق سواء، لا تأخذه في الله لومة لائم. قالوا فبأي دين يدين يا نبي الله؟ قال: يدين بدين الحنيفية، فطوبى لمن أدركه وآمن به، فقالوا: كم بيننا وبين خروجه يا نبي الله؟ قال مقدار ألف عام فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل، قال: فأقام بمكة حتى قضى نسكه، ثم خرج من مكة صباحًا، وسار نحو اليمن فوافى صنعاء وقت الزوال، وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضًا حسناء تزهو خضرتها فأحب النزول بها ليصلي ويتغدى، فلما نزل قال الهدهد: إن سليمان قد اشتغل بالنزول فارتفع نحو السماء فانظر إلى طول الدنيا وعرضها، ففعل ذلك، فنظر يمينًا وشمالا فرأى بستانًا لبلقيس، فمال إلى الخضرة فوقع فيه فإذا هو بهدهد فهبط عليه، وكان اسم هدْهد سليمان يعفور واسم هدهد اليمن عنفير، فقال عنفير اليمن ليعفور سليمان: من أين أقبلت وأين تريد؟ قال: أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود. فقال: ومن سليمان؟ قال ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحوش والرياح، فمن أين أنت؟ قال: أنا من هذه البلاد، قال: ومن ملكها؟ قال: امرأة يقال لها بلقيس، وإن لصاحبكم ملكًا عظيمًا ولكن ليس ملك بلقيس دونه، فإنها ملكة اليمن كلها، وتحت يدها اثنا عشر ألف قائد، تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل، فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها؟ قال: أخاف أن يتفقدني سليمان في وقت الصلاة إذا احتاج إلى الماء، قال الهدهد اليماني: إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة، فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها، وما رجع إلى سليمان إلا في وقت العصر. قال: فلما نزل سليمان ودخل عليه وقت الصلاة وكان نزل على غير ماء، فسأل الإنس والجن والشياطين عن الماء فلم يعلموا، فتفقد الطير، ففقد الهدهد، فدعا عريف الطير- وهو النسر- فسأله عن الهدهد، فقال: أصلح الله الملك، ما أدري أين هو، وما أرسلته مكانًا، فغضب عند ذلك سليمان، وقال: {لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} الآية. ثم دعا العقاب سيد الطير فقال: علي بالهدهد الساعة، فرفع العقاب نفسه دون السماء حتى التزق بالهواء فنظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم ثم التفت يمينًا وشمالا فإذا هو بالهدهد مقبلا من نحو اليمن، فانقض العقاب نحوه يريده، فلما رأى الهدهد ذلك علم أن العقاب يقصده بسوء فناشده، فقال: بحق الله الذي قواك وأقدرك علي إلا رحمتني ولم تتعرض لي بسوء، قال: فولى عنه العقاب، وقال له: ويلك ثكلتك أمك، إن نبي الله قد حلف أن يعذبك أو يذبحك، ثم طارا متوجهين نحو سليمان، فلما انتهيا إلى المعسكر تلقاه النسر والطير، فقالوا له: ويلك أين غبت في يومك هذا؟ ولقد توعدك نبي الله، وأخبراه بما قال، فقال الهدهد: أوَما استثنى رسول الله؟ قالوا: بلى، قال: {أو ليأتيني بسلطان مبين}، قال: فنجوت إذًا، ثم طار العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان وكان قاعدًا على كرسيه، فقال العقاب قد أتيتك به يا نبي الله، فلما قرب الهدهد رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعًا لسليمان، فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه وقال: أين كنت؟ لأعذبنك عذابًا شديدًا، فقال الهدهد: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله تعالى، فلما سمع سليمان ذلك ارتعد وعفا عنه، ثم سأله فقال: ما الذي أبطأ بك عني؟ فقال الهدهد ما أخبر الله عنه في قوله: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ}.


{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} قرأ عاصم ويعقوب: {فَمَكَثَ} بفتح الكاف، وقرأ الآخرون بضمها وهما لغتان، {غَيْرَ بَعِيدٍ} أي: غير طويل، {فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} والإحاطة: العلم بالشيء من جميع جهاته، يقول: علمتُ ما لم تعلم، وبلغتُ ما لم تبلغه أنت ولا جنودك، {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ} قرأ أبو عمرو، والبزي عن ابن كثير من سبأ ولسبأ في سورة سبأ، مفتوحة الهمزة، وقرأ القواص عن ابن كثير ساكنة بلا همزة، وقرأ الآخرون بالإجراء، فمن لم يجره جعله اسم البلد، ومن أجراه جعله اسم رجل، فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن سبأ فقال: «كان رجلا له عشرة من البنين تَيَامَنَ منهم ستة وتشاءم أربعة». {بِنَبَإٍ} بخبر، {يَقِينٍ} فقال سليمان: وما ذاك؟ قال: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} وكان اسمها بلقيس بنت شراحيل، من نسل يعرب بن قحطان، وكان أبوها ملكًا عظيم الشأن، قد ولد له أربعون ملكًا هو آخرهم، وكان يملك أرض اليمن كلها، وكان يقول لملوك الأطراف: ليس أحد منكم كفؤًا لي، وأبى أن يتزوج فيهم، فزوجوه امرأة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن، فولدت له بلقيس، ولم يكن له ولد غيرها، وجاء في الحديث: إن إحدى أبوي بلقيس كان جنيًا. فلما مات أبو بلقيس طمعت في الملك فطلبت من قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وعصاها قوم آخرون، فملَّكوا عليهم رجلا وافترقوا فرقتين، كل فرقة استولت على طرف من أرض اليمن، ثم إن الرجل الذي ملكوه أساء السيرة في أهل مملكته حتى كان يمد يده إلى حرم رعيته ويفجر بهن، فأراد قومه خلعه فلم يقدروا عليه، فلما رأت ذلك بلقيس أدركتها الغيرة فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه، فأجابها الملك، وقال: ما منعني أن أبتدئك بالخطبة إلا اليأس منك، فقالت لا أرغب عنك، كفؤ كريم، فاجمع رجال قومي واخطبني إليهم، فجمعهم وخطبها إليهم، فقالوا: لا نراها تفعل هذا، فقال لهم: إنها ابتدأتني فأنا أحب أن تسمعوا قولها فجاؤوها، فذكروا لها، فقالت: نعم أحببت الولد. فزوجوها منه، فلما زفت إليه خرجت في أناس كثير من حشمها، فلما جاءته سقته الخمر حتى سكر، ثم جزت رأسه وانصرفت من الليل إلى منزلها، فلما أصبح الناس رأوا الملك قتيلا ورأسه منصوب على باب دارها، فعلموا أن تلك المناكحة كانت مكرًا وخديعة منها، فاجتمعوا إليها وقالوا: أنت بهذا الملك أحق من غيرك، فملكوها.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا عثمان بن الهيثم، أخبرنا عوف، عن الحسن، عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس ملكوا عليهم بنت كسرى قال: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة». قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} يحتاج إليه الملوك من الآلة والعدة، {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} سرير ضخم كان مضروبًا من الذهب مكللا بالدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، وقوائمه من الياقوت والزمرد، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق. قال ابن عباس: كان عرش بلقيس ثلاثين ذراعًا في ثلاثين ذراعًا: وطوله في السماء ثلاثون ذراعًا. وقال مقاتل: كان طوله ثمانين ذراعًا وطوله في السماء ثمانين ذراعًا. وقيل: كان طوله ثمانين ذراعًا وعرضه أربعين ذراعا وارتفاعه ثلاثين ذراعًا.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8